علاقة العرب بالفرس علاقة أزلية بالزمان والمكان، تتوتر في حقب وتفتر في أخرى، وقليلاً ما تصفو، وإن صفت فبسبب سطوة أحدهما على الآخر، كما كان للفرس السطوة غالباً قبل الإسلام، ثم جاء الإسلام فأظهر الله العرب على إمبراطوريات ذلك الزمان: الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الفارسية. وكان بينهما نزاع مستمر، وكانت الغلبة للفارسية عند بزوغ شمس الإسلام، وكان العرب يتمنون الهزيمة للفرس، وحصل عكس ذلك، جاء ذكر ذلك بالقرآن الكريم، قال الله تعالى:
(غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِم سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)
وكان لكلتا الدولتين حلفاء أو أتباع من العرب؛ فالروم يتبعهم ملوك الغساسنة في الشام، والفرس يتبعهم ملوك المناذرة في الحيرة بالعراق، وكانت علاقاتهم مع العرب تمر غالباً عن طريق هاتين المملكتين، فأي طلب يُراد من العرب إن كان للروم طلب من ملك الغساسنة، وإن كان للفرس طلب من ملك المناذرة.
ومن أمثلة الطلبات التي يطلبونها، وأغربها، أنه كان لملوك الأعاجم أو العجم، أو ما يسمى بكسرى، مغالاة في وصف النساء وما يحبون ويرغبون توفره بالمرأة من صفات الجمال والدلال، فعندما يريد كسرى امرأة له أو لقرابته، يكتب إلى النواحي بتلك الصفات، فأي امرأة وُجدت كاملة الصفات تُحمل إلى إيوانه، وكان لا يطلب امرأة بتلك الصفات من العرب لاعتقاده بأن نساء العرب لا يتصفن بها.
واتفق أن دخل عليه رجل من العرب يُدعى زيد بن عدي، وسمع ما يدور، فقال للملك: إني رأيت ما كتب في طلب النساء وعرفت الصفات المطلوبة، وإني كنت عند عبدك النعمان بن المنذر صاحب الحيرة، ورأيت من بناته وأخواته وعماته وأهله أكثر من عشرين امرأة بنفس الصفات والميزات التي طلبها مقامكم الكريم.
(وكان لزيد بن عدي ثأر عند النعمان إذ سبق وأن قتل النعمان أباه، فأراد الانتقام منه على يد سيده كسرى).
وقال لكسرى: فإن رأيت أن تطلبهن منه، وفي علمك، فإن النعمان إذا جاءه الطلب سيغيبهن لأنه يرى أن العرب يتكرمون ويتميزون عن العجم ولا يصاهرونهم، فأبعثني إليه مع أحد رجالك الذين يتكلمون العربية لتكون الحجة على النعمان، وإذا رآني لا يستطيع تغييب النساء لمعرفتي بهن.
فوافق كسرى، وكتب خطاباً للنعمان بتلك الصفات المطلوبة وهي كالآتي:
(جارية معتدلة الخَلْق، نقية اللون والثغر، قمراء، وطفاء، كحلاء، دعجاء، حوراء، عيناء، قنواء، شماء، برجاء، زجاء، أسيلة الخد، شهية المُقَبّل، جَثلة الشعر، عظيمة الهامة، بعيدة مهوى القرط، عيطاء، عريضة الصدر، كاعب الثدي، ضخمة مشاش المنكب والعضد، حسنة المعصم، لطيفة الكف، سبطة البنان، ضامرة البطن، خميصة الخصر، غرثى الوشاح، رداح الأقبال، رابية الكفل، لفّاء الفخذين، ريّا الروادف، ضخمة المأكمتين، مفعمة الساق، مشبعة الخلخال، لطيفة الكعب والقدم، قطوف المشي، مكسال الضحى، بضّة المتجرد، سموعاً للسيد، ليست بخنساء ولا سفعاء، رقيقة الأنف، عزيزة النفر، لم تُغذَّ في بؤس، حيية، رزينة، حليمة، ركينة، كريمة الخال، تقتصر على نسب أبيها دون فصيلتها، وتستغني بفصيلتها دون جماح قبيلتها، قد أحكمتها الأمور في الأدب، فرأيها رأي أهل الشرف، وعملها عمل أهل الحاجة، صناع الكفين، قطيعة اللسان، زهوة الصوت ساكنته، تزين للولي وتشين للعدو).
فلما قرأ زيد الخطاب وما به من الصفات المطلوبة بالضرورة على النعمان، شقّ عليه ذلك، فقال: لا تتوفر هذه الصفات لدى نساء العرب.
وأضاف بفلسفة التحدي غير المتكافئ: أليس في مها السّواد وعين فارس ما يسد حاجة كسرى؟
(ويعني بالفارسية “كاوان” أي “البقر”).
فلما رجع زيد ورفيقه المترجم الفارسي إلى كسرى وأخبراه برد النعمان، استشاط غضباً، وقال لزيد: وأين الذي ذكرت عندهم من جمال النساء؟
فقال: قلت لك أيها الملك إنهم سيضنون عليك بنسائهم.
وليزيد حنقه وغضبه قال: وهذا الموقف من العرب يجعلهم إلى الشقاء أقرب، فقد اختاروا الجوع على الشبع، والعري على الستر، والحر والسموم على طيب الهواء ونقاء الأرض الطيبة.
فقال كسرى: رب عبدٍ قد أراد أشد من ذلك، ثم صار أمره إلى تباب، متوعداً النعمان بالويل والثبور وعظائم الأمور.
فوصل الكلام إلى النعمان، فأخذ يتوقع أي شيء ويستعد للنجاة. وسكت كسرى عدة أشهر ليطمئن النعمان ويهدأ روعه، ثم كتب إليه أن: أقبل علينا، لنا إليك حاجة.
فلما أتاه الكتاب، حمل سلاحه وما يحتاجه من متاع، وما يقدر على حمله من مؤونة، وماله، وأهله، وعياله، فاتجه هارباً إلى قبيلة طي، وكان متزوجاً منهم، ليُدخلوه الجبلين ويمنعوه، فأبوا عليه وطردوه خوفاً من كسرى، وقالوا: لولا صهرك لنا لقتلناك، لنتقي غضب كسرى، إذ لا طاقة لنا بحرب ملك فارس.
فأخذ يطوف على قبائل العرب، ولم يقبله منهم أحد، إلا ما كان من بني رواحة من قبيلة عبس، فقد قبلوه، وقالوا: إن شئت قاتلنا معك ومنعناك كما نمنع أنفسنا وأهلنا وأموالنا.
ولكنه قال: ما أحب أن أوقع بينكم وبين الفرس عداوة فأهلككم وأهلك معكم، فلا طاقة لكم بكسرى وجيوشه.
ثم ذهب إلى قبيلة بني شيبان من بكر بن وائل في ذي قار، ونزل على هاني بن مسعود الشيباني ليطلب منه الجوار والرأي، فأجاره، ولكن هاني قال له: إن كسرى سيهلكني ويهلكك، ولك عندي رأي أرى أنه هو الصواب لحل معضلتك.
قال النعمان: هات الرأي.
فقال له: أنت ملك، ولا ينبغي لك بعد الملك والرئاسة والحكم أن تتخفى كالسوقة والفيئام من الناس، ولا أن تخاف الموت؛ فالموت نازل بكل أحد، ولَئِن يموت الرجل عزيزاً خير له من أن يموت ذليلاً طريداً متخفياً بعدما كان ملكاً عزيزاً مهاباً.
قال: فما الرأي إذًا؟
قال: تأخذ ما يعجب كسرى من الهدايا والعطايا، وتذهب إليه وتطرح نفسك بين يديه، فإما عفا عنك، فعدت ملكاً عزيزاً، وإما قتلك، فالموت خير لك من أن يتخطفك ذئاب العرب ويتلاعب بك صعاليكهم، فتعيش معدماً، فقيراً، ذليلاً، ثم تموت مقهوراً بنهاية لا تليق بملك مثلك.
قال: فكيف بحرمي ونسائي وأبنائي؟
قال: هم بذمتي، لا يُخلص إليهم إلا كما يُخلص إلى حرمي وبناتي.
قال: إذاً هذا الرأي، ولن أجاوزه.
ثم جمع طرائف وحُللاً وخيلاً وجواهر وعصائب يمنية، فبعث بها إلى كسرى، وكتب له باعتذاره مما بدر منه، وأعلمه بأنه قادم إليه طالباً عفوه.
فقبل كسرى الهدايا، وأمره أن يقدم إليه، وعاد إليه الرسول وأخبره بأن كسرى لا يُضمر له شراً.
فسار إليه بعد أن استودع هاني بن مسعود ماله وأهله وعياله، فلما وصل إلى المدائن، لقيه زيد بن عدي، فقال: أنجُ نعيم، يصغّر اسمه من النعمان، إن استطعت النجاء.
فقال: أفعلتها يا زيد؟ لأن عشت لأقتلنّك قتلة لم يُقتلها عربي، وألحقك بأبيك.
فرد عليه زيد: امضِ لشأنك، فقد غييت لك غية (والغية هي الوتد أو الثقل المدفون الذي تُربط به الدابة)، لو غُييت للمهر القوي ما يقطعها.
فلما وصل إلى إيوان كسرى، وبلغ كسرى أن النعمان بالباب، بعث إليه من قيده وأدخله السجن، فمكث به حتى مات بالطاعون، في نهاية مأساوية سببها حصائد لسانه وكيد زيد بن عدي، انتقاماً لمقتل والده على يد النعمان.
فهل الذي قتل النعمان فلسفة العرب، أم عنجهية الفرس، أم كلاهما؟







