في زحام الحياة وتعاقب فصولها، وتسارع لحظاتها المتقلبة، قد لا نشعر بقيمة ما نملكه، ولا ننتبه لما نفقده إلا حين نحتاجه بشدة.
فمثلًا، لا ندرك تمامًا ما كانت تمنحه الأم من دفء وحنان وأمان، إلا بعد رحيلها. هناك فقط يبدأ الفقد الحقيقي؛ ذاك الفراغ الذي لا يملؤه شعور، ولا يسده احتواء. إنها خسارة لا يعوضها أحد.
رحيل الأم يُعلّمنا أن الأمان لا يُعوَّض، وأن وجوده أعمق من كل الكلمات. حين نكبر، نكتشف أننا نبحث عن ذاك الأمان في وجوه كثيرة: في صداقة حقيقية لا تخذل، في علاقة مستقرة لا تجرح، في حضن طفل يعيد الطمأنينة، أو حتى في عزلة لا تؤذينا.
ذلك الشعور نحتاجه بشتى أنواعه، فنحن في جوهرنا بشر نبحث عن يد أمينة تمسك بنا حين تتعثر خطواتنا، وعن كتف نضع عليه رؤوسنا عندما ينهكنا اليأس وتستنزفنا الأيام.
فالأمان ليس نوعًا واحدًا، بل طيف من الاحتياجات الصامتة:
أمان نفسي: أن نُقبَل كما نحن، دون أن يُطلب منا التبرير الدائم لذواتنا.
أمان عاطفي: أن نُحب دون خوف الفقد، وأن نبوح دون أن نُعاقب على صدقنا.
أمان فكري: أن نُفكّر ونتحدث دون خوف التقليل أو الرفض.
أمان اجتماعي: أن نجد من يحترم إنسانيتنا، حتى وإن كنا غرباء.
كل هذه الأشكال تتقاطع في إحساس واحد: أننا لسنا وحدنا في هذا العالم، وأن هناك من يكون لنا مأوى لا مرآة.
فلا شيء يفوق الشعور بالأمان. أن يأمنك شخص ويثق بك، فهذا وحده كفيل بأن تزهر الحياة أمام عينيك، وتشرق في داخلك ألوان الطمأنينة والسكينة.
الأمان ليس رفاهية، بل هو أساس كل علاقة صادقة، وشرط لا غنى عنه للحب الحقيقي.
فما أفظع أن تُمنح السكينة ثم تُنتزع، وأن يظن البعض أن الأمان أمر دائم، بينما هو هبة ثمينة لا تُمنح إلا لمن يستحقها.
أنا على يقين بأن لكل من يقرأ سطوري قلبًا يأمن إليه، يمنحه الدفء حين تظلم ليلته، ويكون ملجأ حين تضيق به السبل.
فإذا تواجد هذا القلب في محيطك، فاحرص على الحفاظ عليه، فالأمان كنز ثمين لا يُمنح إلا لمن يستحقه.
للكاتبة : زايدة حقوي
مديرة التحرير بصحيفة الشمال الإلكترونية







