في الأيام الثلاثة التي قضيتها في معرض الرياض الدولي للكتاب ٢٠٢٥، عشت تجربة لا تشبه سواها. لم تكن مجرد مشاركة لتدشين كتابين جديدين من مؤلفاتي في أدب الطفل، بل كانت رحلةً إلى قلب المشهد الثقافي السعودي، حيث تختلط رائحة الورق بأصوات الحكايات، وتتناثر الحروف في الأروقة كما لو كانت تحتفل بعودة قرّائها إليها. هناك، بين ضجيج الحشود ودفء اللقاءات، وجدت نفسي أردد في داخلي، بكل فخرٍ واعتزاز: كم نحن أمة عظيمة، أمة اقرأ.
كان المشهد مدهشًا؛ شاباتٌ وشبابٌ يسحبون سلالهم المليئة بالكتب كما لو كانوا يلتقطون الضوء من بين الرفوف، وأطفال تتلألأ أعينهم وهم يمدّون أيديهم نحو القصص الملوّنة. كنت أراقبهم وأنا أستعيد في ذهني الأيام التي كتبت فيها تلك الحكايات الصغيرة للأطفال، وأتساءل: هل تصل كلماتنا حقًا إليهم؟ لكنني وجدت الجواب في أعينهم المشرقة، حين رأيتهم يضحكون ويختارون القصص التي تشبههم، ويعيشون لحظات اكتشافٍ صادقة بين السطور. عندها أدركت أن أدب الطفل ليس رفاهية، بل مسؤولية نبيلة تُسهم في بناء وعيٍ جديد.
في زمنٍ يقال فيه إن الشاشات خطفت انتباه الجيل، كان المعرض يقدّم مشهدًا مختلفًا تمامًا. فبين أروقته المزدحمة، رأيت جيلاً يمدّ يده إلى الكتاب لا إلى الهاتف، ويجد في الورق متعة لا تعادلها لعبة. رأيت الأطفال يصافحون الكتب بثقةٍ ومحبة، وكأنهم يعقدون معها ميثاقًا جديدًا للدهشة. وفي تلك اللحظة، غمرني شعورٌ عميق بالطمأنينة، كأن قلبي يهمس: لا خوف على المستقبل ما دام هذا الجيل لا يزال يختار النور على الوميض، والمعرفة على اللهو، و هدوء الكتاب على ضجيج الأجهزة .
وما أجمل أن ترى الأهل يشاركون أبناءهم هذه اللحظات؛ أمٌّ تمسك بيد طفلها وتختار له قصة، وأبٌ ينحني ليقرأ العنوان بصوتٍ عالٍ ويبتسم معه عند أول كلمة. تلك المشاهد الصغيرة كانت، في نظري، أجمل ما في المعرض. فهي تُثبت أن حبّ القراءة لا يولد وحده، بل يُزرع في بيتٍ يحتفي بالكلمة. حين رأيت ذلك، شعرت أن كل أسرةٍ تحمل في حقيبتها الصغيرة مشروع نهضةٍ كبيرة، وأن كل كتابٍ يغادر جناحًا هناك، يزرع في الأرض بذرة وعيٍ جديدة.
لقد امتلأ المعرض بزوارٍ لم يأتوا لمجرد قضاء وقتٍ عابرٍ أو استعراضٍ يُسجَّل في مواقع التواصل الاجتماعي، بل ليكونوا جزءًا من الحكاية الثقافية التي تُكتب اليوم. يدرك الجميع أن حضورهم ليس استهلاكًا لحدثٍ ثقافي عابر، بل مشاركة في صناعته، ومسؤولية تجاه وطنٍ ينهض بالحرف ويؤمن بأن المعرفة هي ركيزة الوجود. لقد كان المشهد بأكمله لوحةً وطنيةً مهيبة، تروي قصة مجتمعٍ اختار أن يحتفل بالكتاب بوصفه رمزًا للهوية والوعي.
غادرتُ المعرض وقلبي مفعمٌ بالفخر والطمأنينة. شعرت أنني لم أكن هناك لأدشّن كتابين فحسب، بل لأشهد لحظة وعيٍ جماعيةٍ تُعيد تعريف علاقتنا بالقراءة. كان المكان شهادة حيّة على أن حبّ الكلمة لم يمت، وأن الكتاب ما زال يحتفظ بسحره في زمن السرعة والسطحية. رأيت في وجوه الصغار ملامح الغد المشرق، وفي عيون الشباب وعدًا بالاستمرار، وفي خطوات الجميع يقينًا بأن الأمم تُبنى بالحروف.
خرجتُ من المعرض وأنا أهمس لنفسي بفخرٍ وامتنان: ما دام في هذا الوطن من يحمل كتابًا بيده، فلن تخمد شعلة النور أبدًا، ولن تنطفئ الكلمة في الدرب. فبين أروقة المعرض، وجدت ملامح وطنٍ ينهض — ينهض بفكره، وأبنائه، وبحلمه الذي كُتب ذات يوم في أول كلمةٍ نزلت على أمةٍ خُصّت بالوعي: اقرأ
المشاهدات : 23506
التعليقات: 0







