عندما كتب الدكتور طه حسين عام 1949م مجموعته القصصية *المعذبون في الأرض*، كان ينوي إيصال رسالة عن أحوال الفقراء، وتحديدًا في بلده ومسقط رأسه، موضحًا كيف أن الحياة لم تكن عادلة معهم، وشارحًا أوجاعهم وما يقاسونه بسبب الفقر وشدة البؤس.
بالطبع، الكتابة عن طه حسين ستأخذ منا وقتًا طويلاً وبحثًا شائكًا نظرًا لمكانته العلمية والأدبية، لكننا، على الأقل، بحاجة إلى الإشارة إليه مع فيكتور هوجو في *البؤساء*، حتى نستدل على ذلك الإحساس الذي كان يخالجهما تجاه الطبقات الكادحة وما يقع عليها من ظلم معنوي ونفسي جرّاء ما يمارسه المتنعمون والمترفون.
إن مثل هذه القصص الإثرائية تصور لنا أهمية أن نعيش احتياج الناس ونحس بوجعهم، أن نغوص في أقصى نقاط ألمهم كي نشعر بمعاناتهم، مع ضرورة أن نكون بالقرب منهم، خصوصًا طبقة العمال والمحتاجين والفقراء والمساكين المسحوقين تحت أقدام الفاقة والعوز.
فقسوة العيش التي يتجرع مرارتها أولئك المنسيون، والشقاء الذي يعايشونه، والكبد الغائص في أعماقهم، يدفعنا إلى واجب التعاطف معهم، والنزول إلى أماكنهم، والسؤال عن أحوالهم، وتقديم يد العون والمساعدة لهم. هذا واجب إنساني في المقام الأول، لكنه لا يعني أن تشاع أحوالهم وتذاع ظروفهم للعامة ليعرفها الجميع.
يتعين على الجميع الالتفات إليهم بعين الرحمة لا بعين الشفقة، كما ينبغي ألا نستغل ضعفهم وحاجتهم ونتخذهم جسرًا لتمرير المصالح الذاتية. هذه عُقد سلوكية يعيشها البعض ممّن اتسعت دوائر أرزاقهم، بل من الواجب علينا الستر عليهم، والعمل باستمرار على ألا تضيع كرامتهم وسط زحام الشهرة وشراهة جمع السمعة والبحث عن الأضواء على حساب راحتهم النفسية والأدبية والأخلاقية والاجتماعية.
ما المانع أن يبذل البورجوازيون جهدهم في البحث عن هؤلاء المحتاجين بدلًا من دعوتهم لأخذ قسيمة شرائية بمبلغ زهيد أو إظهار أحوالهم على القنوات الفضائية؟ هذا مشهد متكرر هذه الأيام، وهو أمر غير صحي وغير لائق. ألا يعلم الأغنياء أن كثيرًا من هؤلاء متعففون، يموتون ألمًا من شدة الفقر، علاوة على ضعف المردود المادي الذي، إن حصلوا عليه، لم يعنهم حتى على ابتياع شطيرة خبزٍ جافة؟
لك أن تتخيل أسرة تتكون من عشرة أشخاص يعيشون تحت وطأة الاستدانة، ويجابهون عنف الفقر بصبر وجلادة، لا يجدون ما يسدون به رمقهم، بينما في حيٍّ مقابل، لا يبعد كثيرًا عنهم، تقام الولائم والموائد، ولا أحد يلتفت إليهم.
إنها مأساة حقيقية تعيشها طبقة منسية، طبقة البروليتاريا، طبقة كادحة تعيش على الفتات. وأحيانًا، في آخر المساءات، تحت جنح الظلام، يذهبون إلى تلك الحاويات يفتشون عما قذفته أيدي البورجوازيين.
صورة أخرى من صور امتهان إنسانية المحتاجين؛ إذ انتشرت ظاهرة القسائم الشرائية والتخفيضات الشكلية على السلع الغذائية، حيث يقوم التاجر بعرض قسيمة مشتريات لبعض السلع، والغرض من ذلك تصريف البضائع القديمة بطريقة مقززة، أبعد ما تكون عن الإنسانية، رغبةً في استبدالها بأخرى ذات صلاحية جديدة، مع إيهام الضعفاء بالتخفيضات الصورية.
نحتاج إلى فهم أوسع! لماذا كلّ هذا؟
إن استغلال الظروف التي تمر بها الطبقة الكادحة، والعزف دائمًا على وتر حاجتهم للغذاء والدواء والكساء والمال من قبل البعض، هو أسلوب يخلو من الإنسانية ويتجرد من معانيها، بل هو تصرف غير مقبول يفتقر إلى اللياقة والتهذيب، وفيه إساءة لهم وانتقاص شديد.
من السهل معرفتهم؛ تظهر على سحناتهم شظايا الشقاء، لا يملكون المصانع أو العقارات أو المناجم، وتتمثل وسيلة عيشهم الوحيدة في الأجور الزهيدة التي يتقاضونها لقاء عملهم عند أصحاب رؤوس الأموال، أو ما يرد إليهم من القطاع الرابع.
لقد تعلمنا فيما مضى مفهوم العطف والرحمة، لكن الذي لم نتعلمه هو كيف نصنع حياة رغيدة لأولئك المهمشين، وكيف نرفع الظلم عنهم في ظل الضغط المستمر من الرأسماليين المستبدين الذين لا همّ لهم سوى تهشيم أضلاع المساكين وفرض منطق النتيجة الواحدة وحتمية الرأي المطلق.
إن حياة أصحاب تلك الطبقة، التي تحيا أسفل سلالم العدل الاجتماعي، مستوحاة من الملحمة العالمية *البؤساء*؛ إنك تقرأ في وجوههم، أينما صادفتهم، ما كان يكتبه فيكتور هوجو عن ظلم الإنسان للإنسان. كأنك، كلما شاهدت أحد أولئك الضعفاء، أدركت أنهم يعيشون في كوكب مغاير عن كوكبنا.
نكاد نتحول، كل يوم، إلى ما يشبه الآلة التي لا تعمل إلا حين يوضع الوقود فيها. ينبغي أن نتجرد من مصطلح *الأنا*، وأن نسمح لمفهوم *نحن* بأن يطغى على حياتنا ويصبح عنوان الكل والجميع.
كما يتعين علينا إدراك عواقب هذه المرحلة الخطرة التي يعيشها الفقراء؛ فالفقر يوشك أن يقضي عليهم، إنه يتغول فيهم، ويهشم عظامهم بسبب جحيم البورجوازية.
**انتهى**
**علي بن عيضة المالكي**
*كاتب رأي*
—