دائرة مغلقة لا تُفتح إلا بمفاتيح ذات التواءات وانحناءات، تُعطي من لا يستحق، وتُقصي من يستحق، فتنقلب الموازين ويتبدل الحق بالباطل.
قد يظن البعض أن كلمة “الوساطة” قريبة في معناها من “الوسطية”، تلك القيمة التي تدعو إلى التوازن والاعتدال، لكنها في الحقيقة بعيدة كل البعد عنها. فالواسطة هي طلب المساعدة من شخص ذي نفوذ أو حظوة لدى أصحاب القرار، لتحقيق مصلحة شخصية لا يمكن تحقيقها بالاستحقاق أو الجدارة.
تُخلّف الواسطة آثارًا سلبية عميقة، تبدأ بالقضاء على القدرات الإبداعية، إذ تُهمّش الكفاءات وتُحبط المواهب، مما يقتل الطموح ويعيق الابتكار. وتُسهم أيضًا في نشر مشاعر الحقد والكراهية بين الناس، إذ يشعر الكثيرون بالظلم حين يرون من لا يستحق يتقدّم على من يستحق. وفي بيئات العمل، تخلق الواسطة أجواءً غير صحية، تسود فيها المحسوبية والتمييز، ما ينعكس سلبًا على الأداء العام والإنتاجية.
وتختلف الوساطات في جوهرها، فليست كلها في ميزان واحد. فهناك الوساطة التي يكون هدفها الخير، كتيسير أمرٍ مشروع أو مساعدة من يستحق الدعم، وهذه وساطة مقبولة، وقد قال النبي ﷺ: “اشفعوا تُؤجروا”. أما الوساطة التي يكون هدفها الباطل، كتعيين من لا كفاءة له أو منح امتيازات لا تُستحق، فهي محرّمة ومرفوضة أخلاقيًا ودينيًا، وتُعد نوعًا من الفساد.
الحُكم على الوساطة لا يكون بظاهرها، بل بغايتها. فإن كانت الغاية طيبة ومشروعة، كانت الوساطة طيبة. وإن كانت الغاية فاسدة أو ظالمة، أصبحت الوساطة أداة ظلم وإقصاء. والمشكلة الحقيقية في أن هذه الواسطة حين تُمارس بشكلها السيئ، تُلغي مبدأ الاستحقاق وتطمس معايير الجدارة، فترفع غير المؤهل وتُقصي الكفء، مما يؤدي إلى وأد الإبداع وتلاشي القدرات، وتدخل المجتمعات في فوضى عشوائية بعيدة كل البعد عن النظام والانتظام.