العنوان غريب نعم، والبحث فيه ذو ذائقة وطعم ورنين ونغم، والأغرب من ذلك أن سبب الكتابة فيه قطعة مدورة من أدم يُطلق عليها كرة قدم، استجاب لها القلم فسال مداده بنهم ليروي شيئًا من عطش المدعي للحب الصادق والمجافي له، ومن هو منه آبق، ولكلٍّ منهما فلسفته لإثبات ما ادعاه وما وافق هواه، فياليت شعري هل أنا مع أيهما أميل وأثبت المستحيل بأن لكل إنسان صديقًا وخليلًا، أم أن ذلك مجرد خيال وليس عليه دليل، أم أني مع هذا وذاك؟ ومن هنا يكون الخوض فيه ليس به بأس، وهذا ما سيحصل في ثنايا هذه السطور.
شدني في جريدة عكاظ مقال للأستاذ والكاتب الرياضي أحمد الشمراني في معرض حديثه عن الحب والعشق، وإن كان مقاله في المجال الرياضي إلا أن الموضوع يحتمل التشعيب ليشمل الحب بجميع أغراضه وصفاته، ويحلو لمريد الكتابة ما لا يحلو لغيره في أخذ الموضوع من كل الجوانب المحتملة والمرتبطة به، وقد نقل عن الكاتبة كلاريس ليسبكتور، وهي كاتبة ليتوانية الأصل يهودية الديانة برازيلية الجنسية، وُلدت في أوكرانيا وانتقلت مع أسرتها وهي رضيعة إلى البرازيل في خضم المصائب التي اجتاحت عرقها اليهودي في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
ففي ما نُقل عنها في ذات الموضوع ما يلي:
(آمنت بالحب الحقيقي ولكنني اكتشفت أنه غير موجود)
(أحببت الأشخاص الذين خذلوني وخذلت الأشخاص الذين أحبوني)
(أمضيت ساعات أمام المرآة في محاولة لمعرفة من أنا)
(لقد كذبت وندمت، وقلت الحقيقة وندمت على ذلك أيضًا)
انتهى كلامها، وقد نأخذ من الكتّاب ومن أهل الكتاب ما يوافق الحقيقة أو يُنتفع به الكاتب والقراء معًا.
فالكاتبة – على حد قولها – آمنت بالحب ولكنها اكتشفت أنه غير موجود، مما نفى إيمانها به، ومن نتاج ذلك أنها خذلت من أحبوها وأحبت من خذلوها، وتفحّصت نفسها في المرآة لتتعرف على نفسها، فربما أنكرت نفسها أيضًا، وكذبت وندمت، وقالت الحقيقة وندمت، فهي ترى أنها أنكرت حقائق وتعاملت بعكس الواقع وتنكرت لها ذاتها، أو أن المرآة خدعتها، فهي إذًا من ندم في ندم، إلا أنها قالت فيما قالت شيئًا من الحقائق التي تتعلق بالنفس البشرية على اختلاف مشاربها، وتباعد مضاربها، وتباين معتقداتها، وأساليب حياتها، والظروف المحيطة بها.
ولنا مندوحة عن أخذ كلامها على عواهنه، فالكاتبة تقيس الأمور على نفسها دون النظر بعين الاعتبار لما يدور حولها من ظروف تخصها هي، ومن هو على شاكلتها في النشأة والبيئة والمعتقد والتشرد والمعاناة، وليس الأمر كذلك في قواميسنا، فلَدينا الحب الحقيقي حقيقة موجودة ومشهودة ومعهودة ومنشودة.
ولدينا حب آخر يتلون حسب الأهواء والأجواء والأنواء وكفاءة المحب من الأخلاء، أو نقص الأداء في الأخذ والعطاء من أي من الفرقاء.
فالحب الحقيقي عندنا الجد الذي لا يخالطه ضد وليس له مثيل ولا ند، هو حبنا كمسلمين مؤمنين حب عبادة وتدين وإجلال وتعظيم وخوف ورجاء للذات الإلهية (الله جل جلاله)، حبًا في أعماق القلوب وفجاج الصدور ولب العقول، آمنا بالله بصدق وحب فوجدنا حلاوة الإيمان وطلاوة الحب وحقيقته التي لا تُجارى.
فكيف لا وهو ربنا ورب كل شيء ومليكه، خلقنا من العدم، ومتعنا بالنعم، ومن أجل نعمه علينا أن بعث فينا نبيًا من أنفسنا وهدانا لطاعته وحبه، وجعلنا من المسلمين، فله سبحانه وتعالى الحمد حتى يرضى.
ولدينا حب آخر حقيقي ليس لدى غيرنا من خلق الله تعالى مثيل له، ألا وهو حبنا لخير خلق الله وأحبهم إليه، عبده ورسوله وصفوة خلقه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فكيف لا نحب حبًا حقيقيًا من أحب الله تعالى ونتعبد الله بحبه، وقد أمرنا مولانا بذلك. ونحب بحبه أهل بيته وصحابته الغر الميامين، أصل الإيمان والدين، وقد أحبهم الله تعالى ورضي عنهم وأرضاهم، وأحبهم الرسول صلى الله عليه وسلم ومات وهو عنهم راضٍ.
ونحب أئمة الدين وأهل العلم،
ونحب الوطن وولاة الأمر،
وفي اعتقادي أنه لم يتبقَّ حب حقيقي خلاف ما ذكرت، إلا حب واحد، ألا وهو حب الوالدين لأبنائهم وفلذات أكبادهم من بنين وبنات، فهذا الحب لا جدال ولا شك في أنه حب حقيقي أزلي وهبه الله تعالى للوالدين رحمة بخلقه ومخلوقاته، فالحضانة والحنان والرعاية والعناية لا تكتمل ولا تؤتي ثمراتها إلا بالحب الحقيقي.
أما ما بقي مما يُطلق عليه حبًا، فربما أنه ينضوي تحت مسميات أو صفات أخرى أقرب وأنسب من كلمة “حب” إلا ما ندر، وما ندر لا يُعتبر قاعدة ولا دليل، فمن المسميات والصفات القريبة لمعنى الحب وليست حبًا حقيقيًا:
مودة، رحمة، صداقة، قرابة، رفقة، أخوة، معرفة، صلة، جيرة، حنان، عطف، عشق، شوق، خلة، مصلحة، زمالة، مجاملة، مداهنة، إعجاب، لباقة، خداع، نفاق.
وكلها أو جلها تنقطع أو تتأثر بأي مؤثرات حقيقية أو مفتعلة، مما ينفي عنها صفة الحقيقة والديمومة، فلا يُركن إليها، وإن كان لا بد من وجودها بين الناس مع الحرص والحذر من تحميلها أكثر مما تحتمل، فالثقة بالشيء المتلون مغامرة غير محسوبة النتائج، والقاعدة التي يمكن اتخاذها منهجًا في ذلك:
(لا إفراط ولا تفريط).
جعلني الله ومن يقرأ ممن أحب الله ورسوله، وأحب في الله، وأحب ما يحبه الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.