منذ أن كنتُ صغيرة، وأنا أهرول خلف أبي وهو يُلبي، نردد سويًا في ممرات البيت: “لبيك اللهم لبيك”. كنت أراه يرفع صوته بخشوع، يكرر النداء وكأن الفجر يسري في صوته.
كنت أظنها لعبة من طقوس الطفولة، لكنها كانت أول دروسي في الحنين… كان يعلمني دون أن يقول إن الطريق إلى الله يبدأ من القلب، لا من مكة فقط.
ومرت السنوات، حتى جاء يوم قال فيه بهدوئه الذي يشبه الأمان: “ستحجين هذا العام”. كنت في الصف الأول الثانوي، ولا أدرك أن الله كتب لي ركنًا من الإسلام في عمر مبكر، لا لأكمل الأركان فحسب، بل لأعود… من ضياع لم أكن أعلم أنني كنت فيه.
في الحج، خفَّ كل ما كنت أظنه “أنا”. ارتديت الإحرام، وكأنني أخلع عني كل قيد، كل تعريف، كل صورة رسمها الناس عني. هناك، لم أكن المتفوقة، ولا الطفلة الطيبة، ولا الفتاة التي ترضي الجميع. كنت فقط قلبًا يسير إلى الله. في الطواف، لم أدرُ حول الكعبة فقط، بل حول سؤال ظل ساكنًا في أعماقي: من أنا إن لم يكن الله في قلبي؟ وإلى أين أذهب إن لم أكن إليه أتجه؟
وفي السعي، شعرت أنني أركض خلف أجزاء مني كانت تائهة… ضاعت بين الخوف، والمقارنات، والتأجيل، والانتظار الطويل. سعيت مثل هاجر، لا بحثًا عن ماء فقط، بل عن يقين، عن رسالة، عن حياة لها معنى أستحقه.
ثم جاء يوم عرفة… وما أصدقه من يوم. وقفت هناك، وسكن كل شيء داخلي، حتى أنفاسي بدت لي واضحة كأنني أتنفس للمرة الأولى. بكيت، لا لأني مذنبة فقط، بل لأني كنت غريبة عن ذاتي. وهناك فهمت: أن المغفرة لا تمحو الذنب فحسب، بل تعيدك إليك… أن الغفران هو الولادة من جديد.
رميت الجمرات، وفي كل حجر كنت أودع شيئًا لم أعد أريده. رميت الخوف… والشك… وجلد الذات. وبدأت أصدق أنني أستطيع أن أبدأ من جديد.
عدت من الحج وأنا لست كما كنت. عدتُ أقرب، أصفى، أهدأ. عرفت أن التغيير الحقيقي لا يبدأ من العادات فقط، بل من العودة الصادقة إلى الله، فإلى النفس. كلما اقتربتُ منه، اقتربتُ من حقيقتي. وأن أعظم الترميم يبدأ بسجدة، وسعي، وطواف داخلي حول نور لا يخفت.
ومنذ ذلك اليوم، كلما أقبل ذو الحجة، لا أراه شهرًا عابرًا… بل موسم رجوع. رجوع إلى النقاء الذي عرفته هناك… يوم ناداني الطريق، وبدأت أرجع من جديد.
رحم الله والدي ووالديكم، وجعلنا وإياكم من السائرين إليه بقلوب طاهرة.