في أمسية شعريّة احتضنها بيت الثقافة، حضرتُ الحدث كنصٍّ يمشي وسط النصوص، يراقب حضور الشعر وغيابه. وبوصفي ناقدة أتيح لي أن أراقب الأمسية من الداخل، متسائلة عن بنية الفعاليات الشعرية، ودرجة وعيها بمكوناتها الفنية والثقافية.
جاءت هذه الفعالية ضمن الانطلاقة الأولى لبيت الثقافة في جيزان، وقد نجحت في اجتذاب حضور كثيف، وتفاعل واضح من الجمهور، يحسب – بدرجة كبيرة – لحُسن التنظيم، والانضباط في إدارة التفاصيل المصاحبة للحدث: من الاستقبال، إلى تنسيق الجلوس، إلى توظيف التقنيات الصوتية والتصويرية بكفاءة، ما منح الأمسية إطارًا أنيقًا يليق ببدايات المشروع الثقافي.
امتدت الأمسية من التاسعة حتى الحادية عشرة مساءً، موزعة على ثلاث جولات رئيسة، شارك فيها خمسة من الشعراء المحليين: د. إياد حكمي، د. محمد حبيبي، أ. أحمد حجريني، أ. محلطم البناء، وأ. نورة العبيري.
تولى التقديم أ. أحمد الفيفي، وأدارت الحوار أ. خلود طواشي، في توزيع مهني أسهم في انسيابية الأمسية وتناغم فقراتها. وعلى الرغم من نجاح الفعالية على مستوى الشكل، إلا أن التجربة كشفت عن فجوة واضحة في البناء الجمالي، وغياب ما يمكن تسميته بـ”التأطير الفنّي” للحدث.
غياب الرؤية الجامعة
امتدت الأمسية على مدار ساعتين، وتوزعت على ثلاث جولات شعرية، لكن دون وجود ثيمة فنية أو تصور موضوعي يوحّد التجربة. وبينما تميّزت بعض النصوص بعمق تأملي ولغة شعرية مركبة، اتسمت مشاركات أخرى بطابع مباشر أو فكاهي. هذا التنوع، الذي كان يمكن توظيفه لصنع تدرج جمالي، بدا هنا مفككًا، وأفرز تلقّيًا مترددًا بين التأمل والارتباك.
في غياب الرؤية الإخراجية الجامعة، تحوّل التنوّع إلى تباعد، وغاب المسار الذي يمكن أن يمنح الأمسية هوية فنيّة متماسكة. وهذا الغياب جعل التلقي مرهونًا بجهد المتلقّي الشخصي في الربط والتأويل، في مساحة عامة لا تحتمل هذا النوع من التلقّي النخبوي دائمًا.
ومما يعزز الإرباك في تلقي الأمسية أن الانتقال بين القصائد لم يكن انتقالًا سلسًا بقدر ما كان قفزًا مباغتًا بين عوالم شعورية متباعدة؛ إذ وجدنا أنفسنا نصغي لقصيدة عن الحياة بعد التقاعد، لننتقل فجأة إلى غزلٍ شفيف، ثم إلى رثاء مؤلم، فقصيدة عن حرب الشام.
كانت مشاعرنا تُسحب ثم تُقذف في تيارات متعاكسة، دون أن تمنح الوقت الكافي لبناء علاقة وجدانية مستقرة مع أي من النصوص. هذا التشتت تضاعف بحضور خمسة شعراء في ليلة واحدة، الأمر الذي حال دون تشكّل رابط شعوري متين بين المتلقي والنص، فكلما همّ بأن يصغي ويتماهى، جاء صوت آخر يقطعه، وقصيدة أخرى تنقله إلى أرض شعورية جديدة لا علاقة لها بسابقتها.
قصائد منفصلة أم تجربة شعرية؟
تحوّلت القراءات الشعرية إلى عروض فردية شبه معزولة، إذ غاب التفاعل بين المشاركين، ولم يظهر أي تقاطع أو انسجام دلالي بينهم. فكل شاعر ألقى نصوصه دون أن يقدّم إضافة لما قيل قبله، ما حرم الجمهور من خوض تجربة شعرية جماعية متكاملة. إن البناء الجمالي للأمسيات الشعرية لا يقوم على النصوص وحدها، بل على العلاقات التي تنشأ بينها، وعلى الحوار الخفي بين الأساليب والرؤى، وهو ما لم يتحقق في هذه الفعالية.
غياب الموازنة
كشفت الفعالية عن تباين ملحوظ في مستوى اللغة الشعرية، فقدم بعض المشاركين نصوصًا ذات عمق تأملي، وبنية لغوية رصينة تُشرك المتلقي في بناء المعنى. بينما لجأ آخرون إلى خطاب شعري مباشر غلبت عليه الطرافة أو العفوية، استدرّ تفاعلًا صوتيًا لحظيًا، دون أن يرسّخ أثرًا شعريًا متراكمًا. هذا التفاوت كشف عن تحدٍ واضح: كيف نوازن بين متطلبات الجمهور العام، وبين الحفاظ على عمق النصوص وجماليات اللغة.
غياب التأطير
تبدو القصيدة، حين تغادر الورقة إلى الجمهور، وكأنما تُعاد كتابتها تحت ضوء التلقي. وهذا ما ظهر جليًا في الأمسية التي جمعت خمسة شعراء من مشارب مختلفة، كشفت نصوصهم عن تباين في الأسلوب والرؤية، بين الذاتية والتأمل، وبين المباشرة والطرافة.
قدّم د. إياد حكمي نصوصًا منسابة تنطوي على تأملات فلسفية ورثاء للذات الإنسانية، بلغة رصينة تُشرك المتلقي في بناء المعنى لا تلقّيه فقط. وطرح د. محمد حبيبي قصائد بطابع يومي حميم، اتسمت بعفويتها وسلاستها، ولامست الحنين الشخصي دون تصنّع، ما منحها حضورًا هادئًا ومؤثرًا.
أما أحمد حجريني، فاستعاد نصوصًا كتبها قبل سنوات طويلة، وقدّمها بتواضع يُحسب له، غير أن غياب التمهيد الزمني والسياقي جعلها تبدو معزولة عن اللحظة الأدائية، رغم ما اتّسمت به من نضج لغوي وإشارات ثقافية غنية، كان يمكن استثمارها في بناء سردية معاصرة أكثر ديناميكية. أما محلطم البناء، فركّز على المزج بين الغزل والفكاهة بلغة مباشرة، وموضوعات تلامس التلقي الشعبي اللحظي، ما استثار تفاعلًا صوتيًا كبيرًا.
مما يطرح تساؤلات عن المعايير الجمالية، وحدود حرية الإبداع في فضاءٍ عام يتطلّب مراعاة الذوق الجمعي دون كبح صوت الفرد. وقدّمت نورة العبيري نصوصًا قصيرة، سبقتها بمقدمات نثرية مطوّلة وصفت فيها لحظة الكتابة ودوافعها، لكن تلك المقدمات لم تجد امتدادًا جماليًا كافيًا في القصائد التي تلتها، ما أضعف الأثر التراكمي للتجربة.
بناء الذاكرة الجمعية
في لحظة فارقة من الأمسية، عرض بيت الثقافة مشهدًا رثائيًا مسجلًا لأحد شعراء المنطقة الراحلين وهو الشاعر: موسى محرق. وهذه اللفتة لم تكن استعراضًا، بل تجسيدًا حقيقيًا لوفاء المجتمع الثقافي، حيث توقفت الأصوات، وارتفعت القصيدة من مقام الإلقاء إلى مقام الذكرى.
وختم العرض ببيتٍ شعريّ مؤثر:
حينَ يبكي الرجالُ حرًّا وفيًا ليسَ عيبًا.. عليكَ نحن بكينا
كانت هذه اللحظة ذروة التجربة الجمعية، حيث تبيّن من خلالها، أن التلقي لا يتوقف فقط على براعة اللغة، بل على تماهي النص مع الشعور الجمعي. وانتقال القصيدة من كونها خطابًا فرديًا إلى كونها ذاكرة جمعية، تُعيد تعريف العلاقة بين الشاعر والمجتمع، وتمنح القصيدة وظيفة وجدانية تتجاوز جمالية اللغة إلى عمق التأثير.
الرهان
المؤسسات الثقافية لا تُقاس بقدرتها على جمع الجمهور فقط، بل بما تقدّمه من تصوّرات وطرائق بناء، تسهم في تطوير الذائقة، وتعيد تشكيل العلاقة بين النص والمتلقي، فالرهان الحقيقي لا يقف عند التنظيم، بل يبدأ منه. في النهاية، ما نحتاجه ليس فقط “أمسيات شعريّة”، بل رؤى شعرية تُبنى بإخراج جمالي، وتأطير واعي، وتنوع مدروس. ذلك أن الشعر لا يُلقى فقط… بل يُبنى.