بسم الله الرحمن الرحيم
عندما تسمع او تقرأ عن مجنون اول مايتبادر الي ذهنك إنك أمام شخص تايه لايحس ولا يعقل ولاينطق بكلام سليم ولا جملة مفيدة لايفيدولايستفيدويعيش كماتعيش المخلوقات التي لاتعقل بل هي أهنأ عيشاً منه وأرقى .
الا أن التاريخ والسير وأمهات الكتب تنقل لنا خلاف ذلك وتفيدنا بحكم ودروس غنية بالفائدة ينطق بها عقلاء المجانين تعز على كثير من العقلاء الأسوياء بل ويستفيد منها الحكماء والعلماء وطلبة العلم ومن المسلّم به والمعروف بأنه كما أن في المجانين عقلاء فكذلك في العقلاء مجانين بطبيعة حالهم وهؤلاء ليسوا كأولئك فمجانين العقلاء لايرجى منهم شيء فقد فقدوا كل شيء بمحض إرادتهم المتهالكة .
وللفائدة التي يبحث عنها هواة الاطلاع وطلاب العلم ومريدوا الثقافة وسبّار المعرفة نتطرق في هذا المبحث لحياة عدد من المصطفين من مجانين بغداد عاصمة العلم والحكمة والثقافة والمعرفة والمتناقضات في العصر العباسي المليء بذلك وبعض حواضر العراق :
سعدون المجنون :
يقول يحي بن ايوب الغافقي المصري خرجت يوماً الي مقابر باب خرسان ببغداد وجلست أنظر للداخل والخارج من وإلى المقبرة فرأيت رجلاً يدخل مقنعاً ويتجول بالمقبرة ولاحظت أنه كلما مر على قبر منخسف اومحفور وقف عنده وأخذته العبرة وبكى فقلت لنفسي أقوم واذهب إليه عسى أن انتفع بشيء فلما اتيته واذا هو سعدون المجنون وكان في العادة يكون في مقابر تدعى مقابر عبدالله بن مالك
فقلت ماذا تصنع هنا ياسعدون فقال يايحي هل لك ان تجلس فنبكي على هذه الأبدان قبل أن تبلى فلايبكي عليها احد وقال يايحي البكاء من القدوم على الله تعالى أولى بنا من البكاء على بلى هذه الابدان ثم ذكر الاية من سورة الكوثرقال الله تعالى(واذا الصحف نشرت)الاية ثم صاح صيحة شديدة وقال واغوثاه بالله مما في الصحف قال يحي فغشي علي ثم افقت فإذا هو عند راسي يمسح وجهي بيده ويقول يايحي من اشرف منك لو مت الان ؟ .
قال الشيخ الفتح بن شخرف كان سعدون محب لله تعالى صام ستين سنة حتى خف دماغه فسماه الناس مجنوناً لترديده الكلام في المحبة ، وغاب عنا زمناً وفي أحد الايام وانا قائم أدرس في حلقة ذي النون رأيته وعليه جبة صوف مكتوب عليها لاتباع ولاتشترى
ولما سمع كلام ذي النون صرخ وقال :
ولاخير في شكوى الي غير مشتكى
ولا بد من سلوى اذا لم يمكن الصبر
يقول أحمد بن عبدالله بن ميمون سمعت ذا النون المصري يقول خرجت لصلاة الاستسقاء مع الناس في البصرة فبينما انا امشي بين الناس واذا بيدين تمسكان برجلي فقلت اتركني من انت قال انا سعدون المجنون أين تريد ياأبا الفيض قلت اريد المصلا ادعو الله تعالى يغيث البلاد والعباد قال بقلب سماوي اوبقلب جاف
قلت بقلب سماوي قال ياذا النون لاتبهرج فالناقد بصير ثم قال تدعو وأؤمن عليك او ادعو وتؤمن علي قلت بل أنت تدعو ياسعدون وانا أؤمن عليك فقام فصف قدميه فقال إلهي بحق البارحة الا أمطرتنا الان فرايت الغيوم قد نشأت من اليمين والشمال حتى التقت فأنهمر المطر علينا كأفواه القرب فقلت له بحق معبودك الا أخبرتني اي شيء بينك وبين معبودك البارحة قال لاتدخل بيني وبين قرة عيني قلت لابد أن تخبرني فأنشأ يقول :
أنست به فلا ابغى سواهُ
مخافة أن أضل فلا أراهُ
فحسبك حسرة وضنى وسقماً
بطردك عن مجالس أولياهُ
وقال ذو النون رأيت سعدون المعتوه في مقبرة يناجي ربه فقلت بحق من تناجيه الا أوصيتني او دعوت لي فقال :
ياطالب العلم هاهنا وهنا
ومعدن العلم بين جنبيكا
إن كنت تبغى الجنان تدخلها
فاذرف الدمع فوق خديكا
وقم اذا قام كل مجتهد
وادع لكيما يقول لبيكا
يقول الاصمعي :مررت بسعدون المجنون وهو جالس عند رأس شيخ سكران يذب عنه فقلت له ياسعدون مالي أراك جالس عند رأس هذا الشيخ فقال إنه مجنون فقلت انت المجنون او هو قال بل هو المجنون قلت كيف ذلك قال اني صليت الظهر والعصر في جماعة وهو لم يصل جماعة ولا فرادى فقلت وهل قلت في هذا شيئاً قال :
تركت النبيذ لأهل النبيذ
وأصبحت اشرب ماءًقراحا
لأن النبيذ يذل العزيز
ويكسو الوجوه النضارالصباحا
فإن كان ذا جائزاً للشباب
فما العذر فيه اذا الشيب لاحا
فقلت :صدقت
يقول صالح المري قرأت على سعدون المجنون
قول الله تعالى (كأنهن الياقوت والمرجان)الاية
فصرخ وقال ملاح والله وأنشأ يقول :
إن في الخلد جارية & هي حسن كما هيه
لو تراها على النما رق بالغنج ماشيه
لتمنيت أنها & لك ماعشت باقيه
كتبت في شقائق الخد سطراً بعاليه
انا للزاهد الذي عينه الدهر باكيه .
بهلول المجنون :
يقول سريّ السقطي دخلت يوما المقبرة فرأيت بهلول قد دلى رجليه في قبر ويلعب بالتراب فقلت بهلول هنا قال نعم انا عندقوم لايؤذونني وإن غبت عنهم لا يغتابوني وأنشأ يقول :
يامن تمتع بالدنيا وزينتها
ولاتنام عن اللذات عيناه
أفنيت عمرك فيما لست تدركه
تقول لله ماذا؟ حين تلقاه
يقول سريّ فقلت له يابهلول الخبز ارتفع سعره قال والله ما أبالي بذلك إن علينا ان نعبد الله كما أمرنا وعليه أن يرزقنا كما وعدنا ثم ولى وهو يقول :
أف للدنيا فليست لي بدار
إنما الراحة في دار القرار
أبت الساعة الا سرعة
في بلى جسمي بليل ونهار
يقول الفضل بن الربيع حججت مع الخليفة هارون الرشيد وعندما مررنا بالكوفة فإذا بهلول المعتوه يهذي فقلت أسكت فقدأقبل إمير المؤمنين فسكت فلما حاذاه الرشيد قال بهلول يا أمير المؤمنين حدثني أيمن بن نابل قال أنبأنا قدامه العامري قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بمنى على جمل وتحته رحل رث فلم يكن هناك طرد ولاضرب ولا إليك إليك
قلت يأمير المؤمنين إنه بهلول المجنون قال عرفته ثم قال الخليفة قل يابهلول فقال يا أمير المؤمنين :
هب انك قد ملكت الأرض طراً
ودانت لك البلاد فكان ماذا ؟
أليس غداً مصيرك ترب
ويحثو الترب هذا ثم هذا ؟
قال اجدت يابهلول وماذا بعد ؟ قال نعم ياأمير المؤمنين من رزقه الله جمالاً ومالاً فعفّ في جماله واتقى في ماله كتب في ديوان الابرار فظن الخليفة انه يريد شيئاً قال قد أمرنا بقضاء دينك قال لا تفعل لا تقض دين بدين ، اردد الحق الي أهله وأقض دين نفسك بنفسك ، فقال هارون إنا أمرنا لك بمخصص دايم قال لا تفعل لا يعطيك الله وينساني لاحاجة لي بما عندك .
مجنون آخر :
دخل جماعة في المارستان وهومكان إستشفاء المجانين فرأوا من بين النزلاء شاباًمصباً شديد
الهوس ، فولعوا به وزادوا عليه واتعبوه فصاح
وقال مخاطباً لهم أنظر الي شعور مطررة وأجساد ٍ معطرة قد جعلوا الولع بضاعة والسخف صناعة جانبوا العلم راساً ، فقالوا له هل تحسن العلم ؟فنسألك قال قال إي والله إن لدي علماً جماً فسلوني .
قال أحدهم له من السخيّ؟ فقال الذي رزق أمثالكم وأنتم لا تساوون قوت يومكم فضحكوا ثم قالوا من أقل الناس شكراً؟
قال أقلهم شكراً من عوفي من البلاء فرأه في غيره فترك العبرة والشكر وأخذ بالتطنز والسخرية واللهو قال فكسر قلوبنا بذلك
فقال له أحدهم مالظرف؟ قال خلاف ما أنتم عليه ثم بكى ، وقال ياربّ إن لم ترد علي عقلي فرد علي يدي لعلي أصفع بها واحداً من هؤلاء ، قالوا فتركناه وأنصرفنا .
اللهم ربنا لاتجعلنا من عقلاء المجانين ولا من مجانين العقلاء وعافنا في اسماعنا وابصارنا وقواتنا وعقولنا يارب العالمين .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
كتبه/بقيش سليمان الشعباني
الخرج ١٤٤٤/٦/٢٥ للهجرة