يكتظ الفكر بنوع وافر من المعلومات عن الأدباء والشعراء من العصر الجاهلي حتى العصر الحديث تحفظهم الذاكرة جيدًا، إنما الذي استرعى الانتباه واستدعى اجترار الأفكار أبيات كثيرة مازالت عالقة داخل ثيمات الفكر لشعراء خلدوا أسماءهم في التاريخ بل أنّهم ظلوا ملازمين لأفكارنا يلامسون المشاعر ويستحثون العواطف ويلهبون الاحاسيس نعم طرقوا فيها كافة الأغراض الشعرية سواء المدح أو الغزل أو الرثاء وأيضا الفخر ، والوصف والحكمة والاعتذار واستأسدوا فيه وتميزوا.
في هذا المقال نسلط الضوء على أحد أميز الشعراء العراقيين وأفضلهم في عصره رغم عدم وجود هالة إعلامية حوله مقارنة بأمثاله في وطنه.
شدني كثيرًا هذا الشاعر المتعاظم حرفًا ومعنى، قرأت له كثيرًا، قَطْرُه مطرٌ ينهمر كالغيث فيملأ الأذهان جمالاً ويكسبها حبورًا واستكنان.
بطبيعة الحال فالشعر يصلح لكل زمان ، لا يمكن له أن يفسد ، أو تتأثر معانيه كونه خلاصة الشعور وأعذب الكلام وأجمله، وهو في درجة الثمار للأفكار، لذا فالشاعرية التي كان عليها أديبنا كانت نبراسًا مضيئًا، كلما اقتربنا منها انغمسنا في لذيذ معانيها.
رغم أن تلك الأبيات التي قالها مضى عليها ثمان مئة وأربعة وعشرون عامًا إلا أنها تبقى منصبًا استثنائيًا مازال كرسيه موجودًا كلما أحتاج إليه أحدهم قعد عليه فأنشد قولاً وحكمة تُعاونه على مزيد من التعقل وتشد من طبعه وتؤازر أخلاقه على تقلبات الزمان وتحميه من تبدل أطباع البشر وتحولاتهم التي لا تنتهي ولا تنقطع بانقطاع الزمان ولا بانقطاع المكان.
شاعرنا سعد بن يحيى بن موسى بن منصور الملقب بالبهاء السنجاري ابن سنجار مدينة صغيرة في عراق العروبة وتعني الجهة الجميلة ، هذه المدينة تقع غرب محافظة نينوى شمال العراق وغربي محافظة الموصل على الحدود العراقية السورية ، ويسكنها قبائل الايزيديين والأكراد وبعض القبائل العربية تقطنها أيضا.
مدينتا الساحرة أنجبت شاعرنا الهمام الذي أسس لنفسه الالتقاء بالملوك والأمراء وأنشد العديد من القصايد التي مازالت عالقة في ذاكرة التاريخ.
ولد ابن سنجار في عام خمس مئة وثلاثة وثلاثون من الهجرة وتوفي عام ست مئة واثنان وعشرون من الهجرة رغم أنّه كتبَ في الخلاف! إلا أنه كان يميل إلى الشعر ومدح به كبراء قومه حينذاك وجرى شعره على ألسنة كثير من الناس في عصره ومن بعده تعاقب الشعراء في العصور اللاحقة على الاستشهاد بجميل أثره.
حسبنا أن ننشد بعض قصائده لنستلهم فكره ونمضي معه في دائرته الخاصة قليلاً ،ونستفيد منه في تبصير القارئ الكريم بأهمية الشعر الاجتماعي.
يقول في إحدى روائعه
إذا حققت من خل ودادًا فزره ولا تخف منه ملالاً
وكنْ كالشمس تطلع كلَّ يوم ولا تك في زيارته هلالاً
هذا ردٌّ على صاحب له يقال أنها حصلت جفوة بينهما وانقطعت أخباره عنه فلما وصله القصيد المقصود من خليله.
لا تزر من تحب في كل شهر غير يومٍ ولا تزده عليه
فاجتلاء الهلال في الشهر يومٌ ثم لا تنظر العيون إليه.
انبرى قائلاً تلك الأبيات المذكورة يحاول فيها حث صاحبه على ضرورة التواصل كل يوم ، حتى يتحقق الأنس وتدوم العلاقة وتقوى الروابط بين الأحبة، كما أنّ التواصل المنتظم يوسع دوائر الفهم ويزيد ثراء المعرفة ، هكذا يبين لنا الشاعر وبهذه الصورة يرسم ملامح العلاقات الاجتماعية ويؤسس لواحدة من أهم الشراكات التي ينبغي على الإنسان العمل بها ثم إنّه بحاجة شديدة حتى يأنس بنفسه ويقضي حوائجه ويستمتع بحياته.
نحن لا نغفل الدور الذي جاء به الإسلام في طرائق إقامة العلاقات وماجاءت به السنة المطهرة ، أو حتى علماء الاجتماع هذا كله دليل قاطع على مكانة الإنسان على هذا الكون، لكن الذي يدفعنا للاهتمام أكثر سعيًا للاكتمال أن الشعر الاجتماعي كذلك كان رسالة تعالج القضايا بل أنه يمتد إلى أبعد من ذلك؛ يُعتَبَر وسيلة للإصلاح بين الناس، ومحاولة تغيير الواقع وتحريك الوعي عند الآخرين،وتحفيز النفس على تعلم مكارم الأخلاق ويسمح بالتفاعل الجيد مع الأحداث ورفع الظلم حيث أن لغته قوية وسهلة الوصول ، أصحابه يستفزون الفكر ويرفعون الحماس ويحشدون الأصوات هم سفراء على كل حال والبهاء السنجاري أحدهم.
انتهى
علي بن عيضة المالكي
كاتب رأي
المشاهدات : 27083
التعليقات: 0